فصل: قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من جوامع الكلم في دعوة الخليل عليه السلام:

ولقد كانت دعوة إبراهيم هذه من جوامع كلم النبوءة فإن أمن البلاد والسبُلِ يستتبع جميع خصال سعادة الحياة ويقتضي العدل والعزة والرخاء إذ لا أمن بدونها، وهو يستتبع التعمير والإقبالَ على ما ينفع والثروةَ فلا يختل الأمن إلا إذا اختلت الثلاثة الأول وإذا اختل اختلت الثلاثة الأخيرة، وإنما أراد بذلك تيسير الإقامة فيه على سكانه لتوطيد وسائل ما أراده لذلك البلد من كونه منبع الإسلام. اهـ.

.رواية بعيدة تفتقر إلى سند:

وروي أن الله تعالى لما دعاه إبراهيم أمر جبريل صلوات الله عليه فاقتلع فلسطين، وقيل قطعة من الأردن فطاف بها حول البيت سبعًا وأنزلها بوجّ، فسميت الطائف بسبب ذلك الطواف. اهـ. وكذا ذكرها البغوى أيضا وغيره ولا يخفى ما فيها من بعد بعيد.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)}.
التفسير:
إنه تعالى لما استقصى في شرح نعمه على بني إسرائيل والمشركين ومقابلتهم النعمة بالكفران والعناد، شرع في نوع آخر من البيان وهو ذكر قصة إبراهيم عليه السلام لأن كلهم معترفون بفضله وأنهم من أولاده ومن ساكني حرمه وخدام بيته، وفي قصته أمور توجب الاعتراف بدين محمد صلى الله عليه وسلم والانقياد لشرعه منها: أنه أمر ببعض التكاليف ثم وفى بها فنال منصب الاقتداء به، فيعلم أن الخيرات كلها لا تحصل إلا بترك التمرد والانقياد لحكم الله والتزام تكاليفه، ومنها أنه طلب الإمامة لذريته فقيل له {لا ينال عهدي الظالمين} فيعرف أن طالب الحق يجب أن يترك التعصب والمراء ووضع ما رفعه الله لينال رياسة الدارين، ومنها أن القبلة لما حولت إلى الكعبة شق ذلك على اليهود فأريد إزالة غيظهم بأن هذا البيت قبلة إبراهيم الذي اعترفوا بتعظيمه والاقتداء به، ومنها أنه دعا بإرسال نبي من ذريته وهو محمد صلى الله عليه وسلم كما يجيء فيجب على من يعترف بإبراهيم أن يعترف بمحمد صلى الله عليه وسلم. أما قوله: {وإذ ابتلى} العامل في {إذ} إما مضمر نحو واذكر وتكون بمعنى الوقت فقط، أو وإذ ابتلى كان كيت وكيت، وإما {قال إني جاعلك للناس إمامًا} وعلى هذين التقديرين تكون ظرفًا لكان أو قال.
وموقع {قال} على الأولين استئناف كأنه قيل: فماذا قال له ربه حين أتم الكلمات؟ فأجيب {قال إني جاعلك} وعلى الثاني جملة معطوفة على ما قبلها من الآيات ولا يخفى أن الاستئناف أصوب ليناسب سياق الجملتين الآتيتين لورودهما أيضًا على طريقة السؤال المقدر والجواب، وليكون على منهاج {وإذا جعلنا} {وإذا قال إبراهيم} {وإذ يرفع} [البقرة: 127] والابتلاء الاختبار والامتحان، عبر تكليفه إياه بالبلوى تشبيهًا لأمره بأمر المخلوقين وبناء على العرف بيننا، فإن كثيرًا منا قد يأمر ليعرف ما يكون من المأمور حينئذ وإلا فكيف يجوز حقيقة الابتلاء عليه تعالى مع أنه عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها على سبيل التفصيل من الأزل إلى الأبد وقيل: مجاز عن تمكينه العبد من اختيار أحد الأمرين ما يريد الله وما يشتهيه هو كأنه يمتحنه ما يكون منه حتى يجازيه على حسب ذلك. واعلم أن هشام بن الحكم ومن تابعه زعم أنه تعالى كان في الأزل عالمًا بحقائق الأشياء وماهياتها فقط، وأما حدوث تلك الماهيات ودخولها في الوجود فهو تعالى لا يعلمها إلا عند وقوعها بدليل هذه الآية وأمثالها المذكور فيها الابتلاء. وكلمة لعل والجواب عنها ما مر، وقد يستدل أيضًا على مذهبه بوجوه معقولة منها أنه تعالى لو كان عالمًا بالأشياء قبل وقوعها لزم نفي القدرة عن الخالق، لأن ما علم الله وقوعه استحال أن لا يقع، وما علم أنه لا يقع استحال أن يقع ولا قدرة على الواجب وعلى الممتنع بالاتفاق، والجواب أن الوجوب بالغير وكذا الامتناع بالغير لا ينافيان قدرة القادر عليه، وإنما المنافي للقدرة عليه كونه واجبًا لذاته أو ممتنعًا لذاته، ومنها أنه لو كان عالمًا بجميع الجزئيات لكان له علوم غير متناهية أو كان لعلمه تعلقات غير متناهية، فيلزم حصول موجودات غير متناهية دفعة واحدة وذلك محال، لأن مجموع تلك الأشياء أزيد من ذلك المجموع بعينه عند نقصان عشرة منها، فالناقص متناه وكذا الزائد. ونوقض بمراتب الأعداد التي لا نهاية لها، وأيضًا المجموعية والزيادة والنقصان كلها من خواص المتناهي، فأما الذي لا نهاية له ففرض هذه الأعراض فيه محال. ومنها أن هذه المعلومات التي لا نهاية لها هل يعلم الله عددها مفضلة أو لا يعلم؟ فإن علم عددها فهي متناهية، وإن لم يعلم فهو المطلوب. والجواب الاختيار أنه لا يعلم عددها، ولا يلزم الجهل لأن الجهل هو أن يكون لها عدد معين ثم إن الله لا يعلم عددها، فأما إذا لم يكن لها عدد في نفسها فلا جهل ومنها أن كل معلوم فهو متميز في الذهن عما عداه، وكل متميز عما عداه خارج عنه، وكل ما خرج عنه غيره فهو متناه، وكل معلوم متناه فما هو غير متناه استحال أن يكون معلومًا.
والجواب أنه ليس من شرط المعلوم تميزه من غيره عند العالم، لأن العلم بتميزه عن غيره موقوف على العلم بذلك الغير، ويلزم منه أن لا يعلم الإنسان شيئًا إلا إذا علم أمورًا لا نهاية لها. والحق أن نور الأنوار لا يتناهى ووراء لا يتناهى، ما لا يتناهى، وإحاطة غير المتناهي بغير المتناهي غير بعيد وقد يتعلق علمنا بكثير من الأشياء قبل حصولها، فإذا كان علمنا مع تناهي قوتنا ونوريتنا. هكذا فما ظنك بالعليم الخبير الذي هو نور النور ومدبر الأمور وكل عسير عليه يسير؟ {إبراهيم} بالنصب {ربه} بالرفع هو المشهور وهذه الصورة مما يجب فيه تأخير الفاعل وإزالته عن مركزه الأصلي، فإنه لو قدم الفاعل وقد اتصل به ضمير المفعول لزم الإضمار قبل الذكر لفظًا، وعن ابن عباس وأبي حنيفة رفع {إبراهيم} ونصب {ربه} فالمعنى أنه دعاه بكلمات من الدعاء فعل المختبر هل يجيب الله تعالى إليهن أم لا؟ واختلف المفسرون في أن ظاهر لفظ التنزيل هل يدل على تلك الكلمات أم لا؟ فقال بعضهم: اللفظ يدل عليها وهي الإمامة وتطهير البيت ورفع قواعده والدعاء بابتعاث محمد صلى الله عليه وسلم، فكل هذه تكاليف شاقة، أما الإمامة فلأن المراد بها النبوة، وأعباؤها أكثر من أن تحصى، ولهذا فإن ثواب النبي أعظم من ثواب غيره، وأما بناء البيت وتطهيره ورفع قواعده، فمن وقف على ما روي في كيفية بنائه عرف شدة البلوى فيه. ثم إنه يتضمن إقامة المناسك، وقد امتحن الله الخليل بالشيطان في الموقف كرمي الجمار وغيره. وأما الاشتغال بالدعاء ببعث نبي آخر الزمان فيحتاج فيه إلى الإخلاص وإزالة الحسد عن القلب وذلك في غاية الصعوبة. واعترض على هذا القول بأن المراد من الكلمات لو كانت هذه لناسب أن يذكر قوله: {فأتمهن} بعد تعداد الجميع. وأجيب بأنه أخبر أنه ابتلاه بكلمات على الإجمال ثم أخبر أنه أتمها ثم فصل تلك الأمور، وهذا ترتيب في غاية الحسن، إذ لو ذكر {فأتمهن}.
بعد هذا التفصيل لوقع ضائعًا ولانقطع النظم. والقائلون بأن ظاهر الآية لا دلالة فيه على الكلمات زعم بعضهم أنها الكلمات التي تكلم بها إبراهيم مع قومه وقت تبليغ الرسالة، وزعم بعضهم أنها أوامر ونواهٍ. فعن ابن عباس هي عشر خصال كانت فريضة في شرعه وهي عندنا سنة: خمس في الرأس: المضمضة والاستنشاق وفرق الرأس وقص الشارب والسواك، وخمس في الجسد: الختان وحلق العانة ونتف الإبط وتقليم الأظفار والاستنجاء بالماء.
وقيل: ابتلاه الله تعالى من شرائع الإسلام بثلاثين سهمًا، عشرة في براءة {التائبون العابدون} [التوبة: 112] الآية وعشرة في الأحزاب {إن المسلمين والمسلمات} [الأحزاب: 35] وعشرة في المؤمنين {وسأل سائل} إلى قوله: {والذين هم على صلاتهم يحافظون} [المعارج: 34] وقيل: هن مناسك الحج كالطواف والسعي والرمي والإحرام والوقوف بعرفة. وقيل: ابتلاه بسبعة أشياء: بالكواكب والقمر والشمس والختان على الكبر والنار وذبح الولد والهجرة، فوفى بالكل {وإبراهيم الذي وفى} [النجم: 34] وقيل: ما ذكره في قوله: {إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين} [البقرة: 131] وقيل: المناظرات التي جرت بينه وبين أبيه ونمروذ وقومه، والصلاة والزكاة والصوم، وقسم الغنائم والضيافة والصبر عليها. وجملة القول أن الابتلاء بتناول إلزام كل ما في فعله كلفة، واللفظ يتناول مجموع هذه الأشياء وكلًا منها إلا أن الكلام في الرواية، ثم قيل: إن هذا الابتلاء كان قبل النبوة لأنه تعالى نبه على أن قيامه بهن كالسبب لأن جعله إمامًا. وقيل: إنه بعد النبوة لأنه لم يعلم كونه مكلفًا بتلك التكاليف إلا من الوحي. والحق أن هذا يختلف باختلاف تفسير التكاليف، فمنها ما يعلم بالضرورة كونها قبل النبوة كحديث الكوكب والشمس والقمر، ومنها ما ثبت أنه كان بعد النبوة كذبح الولد والهجرة والنار، وكذا الختان فإنه يروى أنه ختن نفسه وكان سنه مائة وعشرين، ومنها ما هو بصدد الاحتمال فقد يمكن أن يكون إلى معرفته سبيل سوى الوحي كمنام أو إلهام. والضمير في أتمهن على القراءة المشهورة لإبراهيم عليه السلام بمعنى فقام بهن حق القيام وأداهن أحسن التأدية من غير تفريط وتوانٍ وفي الأخرى لله تعالى أي فأعطاه ما طلبه ولم ينقص منه شيئًا، ويعضده ما روي عن مقاتل أنه فسر الكلمات بما سأل إبراهيم ربه في قوله: {رب اجعل هذا بلدًا آمنًا} {واجعلنا مسلمين لك} [البقرة: 128] {وابعث فيهم رسولًا} [البقرة: 129] {ربنا تقبل منا} [البقرة: 127] والإمام اسم لمن يؤتم به فعال بمعنى مفعول كالإزار لما يؤتزر به أي يأتمون بك في دينهم. والأكثرون على أن الإمام هاهنا النبي لأنه جعله إمامًا لكل الناس، فلو لم يكن مستقلًا بشرع كان تابعًا لرسول ويبطل العموم ولأن إطلاق الإمام يدل على أنه إمام في كل شيء، والذي يكون كذلك لابد أن يكون نبيًا، ولأن الله تعالى سماه بهذا الاسم في معرض الامتنان فينبغي أن يحمل على أجلّ مراتب الإمامة كقوله: {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا} [السجدة: 24] لا على من هو دونه ممن يستحق الاقتداء به في الدين كالخليفة والقاضي والفقيه وإمام الصلاة، ولقد أنجز الله تعالى هذا الوعد فعظمه في عيون أهل الأديان كلها، وقد اقتدى به من بعده من الأنبياء في أصول مللهم {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفًا} [النحل: 123] وكفى به فضلًا أن جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم يقولون في صلاتهم «اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم» ثم القائلون بأن الإمام لا يصير إمامًا إلا بالنص تمسكوا بهذه الآية وأمثالها من نحو {إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة: 30] {يا داود إنا جعلناك خليفة} [ص: 26] ومنع بأن الإمام يراد به هاهنا النبي سلمنا أن المراد به مطلق الإمام لكن الآية تدل على أن النص طريق الإمامة وذلك لا نزاع فيه، إنما النزاع في أنه لا طريق للإمامة سوى النص، ولا دلالة في الآية على ذلك وفي الآية دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان معصومًا عن جميع الذنوب، لأنه لو صدرت عنه معصية لوجب علينا الاقتداء به وذلك يؤدي إلى كون الفعل الواحد ممنوعًا منه مندوبًا إليه وذلك محال. والذرية نسل الثقلين من ذرأ الله الخلق ذرأ خلقهم إلا أن العرب تركت همزها كما في البرية، ويحتمل أن يكون منسوبًا إلى الذر صغار النمل، والضم من تغيير النسب كالدهري في النسبة إلى دهر {ومن ذريتي} عطف على الكاف كأنه قال: وجاعل بعض ذريتي كما يقال: سأكرمك فتقول وزيدًا ولا يخفى أن {من} التبعيضية تدل على أنه طلب الإمامة لبعض ذريته لعلمه بأن كلهم قد لا يليق بذلك لأن ناسًا غير محصورين لا يخلو من ظالم فيهم غالبًا، ولعلمه بأن بعضهم يليق بها كإسماعيل وإسحاق. وقد حقق الله تعالى أمله فجعل في أولاده وأحفاده كإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وهارون وداود وسليمان وأيوب ويونس وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس ثم محمد صلى الله عليه وسلم أفضلهم وأشرفهم، ولأنه لم يطلب الإمامة إلا للبعض فكان يكفي في الجواب نعم إلا أنه لم يكن حينئذ نصًا في أن ذلك البعض من المؤمنين أم من الظالمين. ولو قال: ينال عهدي المؤمنين كان غاية ذلك خروج الظالمين بالمفهوم لا بالنص، فلمكان التنصيص على إخراج الظالم قال: {لا ينال عهدي الظالمين} والمراد بالعهد هو الإمامة المطلوبة، سميت عهدًا لاشتمالها على كل عهد عهد به الله تعالى إلى بنى آدم إذ لا رياسة أعظم من ذلك كقوله: {ولقد عهدنا إلى آدم من قبل} [طه: 115] {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم} [الأحزاب: 7] وإذا خرج الظالم تعين الصالح للإمامة بطريق برهاني. وذلك أن دعاءه مستجاب ألبتة فكل نبي مجاب، ولأنه لو لم يكن الصالح إمامًا لم يكن لإخراج الظالم وتخصيصه بالذكر معنى. ويحتمل أن يقال: إنه أراد الإمامة لأولاده المؤمنين لا محالة لعلمه بأن الكفرة والظلمة لا تصلح لذلك، فأجيب بما أجيب إسعافًا لطلبته بأبلغ معنى وأتمه كما إذا قيل لمن أشرف أوص لابنك بشيء فيقول: لا يرث مني أجنبي أي كل ما يبقى مني فهو لابني، فكيف أوصي له بشيء؟ ولا يرد أن يونس نال عهده مع أنه ظالم: {سبحانك إني كنت من الظالمين} [الأنبياء: 87] لأن الظلم فيه محمول على ترك الأولى كما في حق آدم {ربنا ظلمنا أنفسنا} [الأعراف: 23] لا على الكفر والفسق. وقد يستدل الإمامية على إبطال غير إمامة علي كرم الله وجهه قالوا: إنهم كانوا مشركين قبل الإسلام بالاتفاق، وكل مشرك ظالم {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13] وكل ظالم فإنه لا ينال عهد الإمامة قالوا: لا يقال إنهم كانوا ظالمين حال كفرهم، فبعد زوال الكفر لا يبقى هذا الاسم لأنا نقول: الظالم من ثبت له الظلم، وهذا المعنى صادق عليه دائمًا ولهذا يسمى النائم مؤمنًا لأنه ثبت له الإيمان وإن لم يكن التصديق حاصلًا حال النوم، وأيضًا المتكلم والماشي حقيقة في مفهومهما مع أن أجزاء التكلم والمشي لا توجد دفعة، فدل هذا على أن حصول المشتق منه ليس شرطًا لكون الاسم المشتق حقيقة. وعورض بأنه لو حلف لا يسلم على كافر فسلم على إنسان مؤمن في الحال إلا أنه كان كافرًا قبل بسنين متطاولة فإنه لا يحنث، وبأن التائب عن المعصية لا يسمى عاصيًا فكذا التائب عن الكفر، وإن قيل: لعل هذا المانع شرعي هو تعظيم الصحابة أو لمانع عرفي فهذا القدر يكفينا على أنا بينا أن المراد من الإمامة في الآية النبوة، فمن كفر بالله طرفة عين فإنه لا يصلح للنبوة وكذا الفاسق حال الفسق لا يجوز عقد الإمامة له باتفاق الجمهور من الفقهاء والمتكلمين، فإن كل عاصٍ ظالم. والعبرة بالعدالة الظاهرة فنحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر خلافًا للشيعة فإنهم يقولون بوجوب العصمة ظاهرًا وباطنًا، ومما يدل على بطلان إمامة الفاسق أن العهد في كتاب الله تعالى قد يستعمل بمعنى الأمر {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان} [يس: 60] أي ألم آمركم؟ لكن المراد في الآية لا يمكن أن يكون ذلك فإن أوامره تعالى لازمة للظالمين كما للمطيعين، فثبت أن المراد كونهم غير مؤتمنين على أوامر الله وغير مقتدى بهم فيها قال صلى الله عليه وسلم: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» فالفاسق لا ينبغي أن يكون حاكمًا ولا تنفذ أحكامه إذا ولي الحكم، ولا تقبل شهادته ولا خبره إذا أخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا فتياه إذا أفتى، ولا يقدم للصلاة وإن كان بحيث لو اقتدى به لم تفسد صلاته. قال أبو بكر الرازي: ومن الناس من يظن أن مذهب أبي حنيفة أنه يجوز كون الفاسق إمامًا وخليفة ولا يجوز كون الفاسق قاضيًا، وهذا خطأ عظيم. نعم أنه قال: القاضي إذا كان عدلًا في نفسه وتولى القضاء من إمام جائر فإن أحكامه نافذة والصلاة خلفه جائزة، لأن الذي ولاه بمنزلة سائر أعوانه.
وليس من شرط أعوان القاضي أن يكون عدولًا، ألا ترى أن أهل بلد لا سلطان عليهم لو اجتمعوا على الرضا بتولية رجل عدل منهم القضاء حتى يكونوا أعوانًا له على من امتنع من قبول أحكامه كان قضاؤه نافذًا وإن لم يكن له ولاية من جهة إمام ولا سلطان؟ قال: وكيف يجوز أن يدعي ذلك على أبي حنيفة وقد أكرهه ابن هبيرة في أيام بني أمية على قضائه وضربه فامتنع من ذلك فحبس فلج ابن هبيرة وجعل يضربه كل يوم أسواطًا، فلما خيف عليه قال له الفقهاء: اقبل له شيئًا من عمله أي شيء كان حتى يزول عنك الضرب، فتولى له عد أحمال التبن التي تدخل عليه فخلاه ثم دعاه المنصور إلى مثل ذلك حتى عد له اللبن الذي كان يضرب لسور المدينة، وذلك أنه كان يقول في المنصور وأشياعه: لو أرادوا بناء مسجد وأرادوني على عد آجره لما فعلت، وقصته في أمر زيد بن علي مشهورة، وحمله المال إليه وفتياه الناس سرًا في وجوب نصرته والقتال معه، وكذلك أمره مع محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن. وفي الآية إنذار بليغ وتخويف شديد عن وخامة عاقبة الظلم وقبح موقعه فإنه يحط أولًا عن رتبة النبوة {لا ينال عهدي الظالمين} وثانيًا عن درجة الولاية {ألا لعنة الله على الظالمين} [هود: 18] وثالثًا عن مرتبة السلطنة بيت الظالم خراب ولو بعد حين، ورابعًا عن نظر الخلائق جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها وخامسًا عن حظ نفسه {وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} [البقرة: 57] ولله در القائل:
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرًا ** فالظلم آخره يأتيك بالندم

نامت عيونك والمظلوم منتبه ** يدعو عليك وعين الله لم تنم

ولآخر:
مرتع ظلم الورى وخيم ** يا صاحب اللب والحجاره

لا تظلم الناس واخش نارًا ** وقودها الناس والحجاره

غيره:
أيحسب الظالم في ظلمه ** أهمله القادر أم أمهلا

ما أهملوا بل لهم موعد ** لن يجدوا من دونه موئلا

غيره:
أتلعب بالدعاء وتزدريه ** وما يدريك ما صنع الدعاء

سهام الليل لا تخطي ولكن ** لها أمد وللأمد انقضاء

واعلم أن عهد الله الذي أخذ على عباده هو بالحقيقة عهد العبودية {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56] والعهد الذي التزمه لعباده هو عهد الربوبية {ربكم ورب آبائكم الأولين} [الشعراء: 26] ثم إنه تعالى لا يزال يلاحظك بنظر الربوبية فيربيك ويربيك وبعد نعمة الوجود يعطيك نعم الصحة المكنة والعافية والسلامة والإيمان والأمان والإخوان والأخدان {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} [إبراهيم: 34] وأنك لا تنفك عن تقصير ونسيان وجهل وعدوان وإيذاء لملائكة الله وعبيده وإرضاء لحزب الشيطان وجنوده.
فيا أيها المغرور ما هذا التقصير فإن لله المصير وما للظالمين من نصير.
قوله: {وإذ جعلنا البيت} تقرير تكليف آخر. والبيت اسم غالب للكعبة كالنجم للثريا وهذا من الأسماء التي كانت في الأصل للجنس، ثم كثر استعماله في واحد من ذلك الجنس لخصلة مختصة به من بين سائر الأفراد حتى صار علمًا له. ولابد أن يكون وقت استعماله لذلك الواحد قبل العلمية مع لام العهد ليفيد الاختصاص به ويسمى بالعلم الاتفاقى، وإنما لزمت اللام في مثله لأنه لم يصر علمًا إلا مع اللام فصارت كبعض حروفه، إلا أنه تعالى لم يرد بالبيت نفس الكعبة فقط بل جميع الحرم لأن حكم الأمن يشمل الكل. وصح هذا الإطلاق لأن الحرمة نشأت بسبب الكعبة نفسها ومثله قوله تعالى: {هديًا بالغ الكعبة} [المائدة: 95] والمراد الحرم كله لأنه لا يذبح في الكعبة ولا في المسجد الحرام.
وقوله: {فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة: 28] والمراد- والله أعلم- منعهم من الحج وحضور مواضع النسك، ويحتمل أن يكون المراد جعلنا البيت سبب الأمن، وعلى هذا يكون البيت نفس الكعبة، وعلى الأول يكون معنى {أمنًا} موضع أمن كقوله: {حرمًا آمنًا} [القصص: 57] والمثابة المباءة والمرجع قيل: إن مثابًا ومثابة لغتان مثل مقام ومقامة. وقيل: التاء للمبالغة كعلامة. عن الحسن: أي يثوبون إليه في كل عام. وعن ابن عباس ومجاهد: لا ينصرف عنه أحد إلا وهو يتمنى العود إليه وذلك لدعاء إبراهيم عليه السلام {فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم} [إبراهيم: 37] وقيل: مثابة أي يحجون فيثابون عليه. وكون البيت مثابة إنما يكون بجعل الله تعالى بناء على أن فعل العبد مخلوق لله، أو بأن الله تعالى ألقى تعظيمه في القلوب ليصير ذلك داعيًا لهم إلى العود إليه مرة بعد أخرى وذلك لمنافع دينية ودنيوية، قال صلى الله عليه وسلم: «من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» وقال: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» ثم إن قطان الخافقين يجتمعون هناك للتجارات وضروب المكاسب فيعظم فيه النفع لمن أراد ولا شك أن قوله: {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنًا} [البقرة: 125] خبر فتارة تتركه على ظاهره وتقول إنه خبر بأن يكون {حرمًا آمنًا يجبى إليه ثمرات كل شيء} [القصص: 57] لا أن يكون إخبارًا عن عدم وقوع القتل فيه أصلًا، فإن الموجود بخلافه فقد يقع القتل الحرام وكذا المباح قال تعالى: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم} [البقرة: 191] وتارة تصرفه عن ظاهره وتقول. إنه أمر بأن يجعلوا ذلك الموضع أمنًا من الغارة والقتل قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله حرم مكة وإنها لم تحل لأحد قبلي وإنما أحلت لي ساعة من نهار» وقد عادت حرمتها كما كانت، فذهب الشافعي إلى أن المعنى أنها لم تحل لأحد أن ينصب الحرب عليها وأن ذلك أحل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما من دخل البيت من الذين وجبت عليهم الحدود فقال الشافعي: إن الإمام يأمر بالضيق عليه بما يؤدي إلى خروجه، فإذا خرج أقيم عليه الحد في الحل، فإن لم يخرج جاز قتله فيه، وكذلك من قاتل في الحرم جاز قتاله فيه. وعند أبي حنيفة لا يستوفى قصاص النفس في الحرم إلا أن ينشئ القتل فيه، ولكن يضيق الأمر عليه ولا يكلم ولا يطعم ولا يعامل حتى يخرج فيقتل وسلم أن يستوفى منه قصاص الطرف. وعند أحمد: لا يستوفى من الملتجئ واحد من القصاصين، ولو التجأ إلى المسجد الحرام قال الإمام: أو مسجد آخر يخرج منه ويقتل لأنه تأخير يسير، وفيه صيانة المسجد وحفظ حرمته. وقيل: تبسط الأنطاع ويقتل في المسجد تعجيلًا لتوفية الحق {واتخذوا} بفتح الخاء معطوف على {جعلنا} أي اتخذ الناس من مكان إبراهيم الذي وسم به لاهتمامه به وإسكان ذريته عنده قبلة يصلون إليها، وعلى هذا المراد بالمصلى القبلة. وأما من قرأ بالكسر على الأمر فعلى إرادة القول أي وقلنا اتخذوا منه موضع صلاة تصلون فيه استحبابًا لا وجوبًا. وفي مقام إبراهيم أقوال. فعن الحسن وقتادة والربيع بن أنس: أنه لما جاء إبراهيم من الشام إلى مكة قالت له امرأة إسماعيل: انزل حتى تغسل رأسك فلم ينزل، لأن سارة شرطت عليه أن لا ينزل غيرة على هاجر فجاءته بحجر فوضعته على شقه الأيمن فوضع قدمه عليه حتى غسلت شق رأسه ثم حولته إلى شقه الأيسر حتى غسلت الشق الآخر فبقي أثر قدميه عليه. وعن ابن عباس: أن إبراهيم عليه السلام كان يبني البيت وإسماعيل يناوله الحجارة، فلما ارتفع البنيان وضعف إبراهيم عن رفع الحجارة قام على حجر فغاصت فيه قدماه. وقيل: إنه الحجر الذي قام عليه إبراهيم عند الأذان بالحج. قال القفال: ويحتمل أن يكون إبراهيم عليه السلام قام على هذا الحجر في هذه الأمور كلها. وعن مجاهد: مقام إبراهيم الحرم كله، فعلى هذا يراد بالمصلى المدعى من الصلاة بمعنى الدعاء. وعن عطاء: مقام إبراهيم عرفة ومزدلفة والجمار لأنه قام في هذه المواضع ودعا بها، والقول بأن مقام إبراهيم الحجر الذي فيه أثر قدميه أولى، لأن هذا الاسم في العرب مختص بذلك الموضع يعرفه المكي وغيره، ولأن الحجر صار تحت قدميه في رطوبة الطين حتى غاصت فيه رجله وذلك من أظهر الدلائل على صنع الله تعالى وإعجاز إبراهيم، وكان أشد اختصاصًا به، فإطلاق مقام إبراهيم عليه أولى، ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ بيد عمر فقال: هذا مقام إبراهيم، فقال عمر: أفلا نتخذه مصلى؟ فقال: لم أؤمر بذلك، فلم تغب الشمس حتى نزلت.
وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استلم الحجر ورمل ثلاثة أشواط ومشى أربعة حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين وقرأ {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} و{من} هذه تجريدية على نحو رأيت منك أسدًا ووهب الله لي منك وليًا مشفقًا ففيه بيان المتخذ والمرئي والموهوب وتمييزه في ذلك المعنى عن غيره. ولا ريب أن للصلاة به فضلًا على غيره من حيث التيمن والتبرك بموطئ قدم إبراهيم عليه السلام، وركعتا الطواف خلف المقام ثم في الحجر ثم في المسجد أي مسجد كان حيث شاء متى شاء ليلًا أو نهارًا سنة عند الشافعي في أصح قوليه بعد الفراغ من الطواف لقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي حين قال هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع، وفي قوله الآخر فرض لظاهر قوله: {واتخذوا} والأمر للوجوب، والرواية عن أبي حنيفة أيضًا مختلفة، {وعهدنا} المراد بالعهد هنا الأمر أي ألزمناهما ذلك وأمرناهما أمرًا ووثقنا عليهما فيه أن طهرا إن كانت {أن} مخففة فالتقدير بأن طهرا وإن كانت مفسرة فمعناه أي طهرًا والمراد التطهير من كل أمر لا يليق بالبيت، أما من الأنجاس والأقذار فلأن موضع البيت وحواليه مصلى، وأما من الشرك ومظانه فلأنه مقام العبادة والإخلاص وكل هذه إما أن لا تكون موجودة هناك أصلًا والمراد أقراه على طهارته مثل {ولهم فيها أزواج مطهرة} [البقرة: 25] فمعلوم أنهن لم يطهرن بل خلقن طاهرات، وإما أن تكون موجودة فأمر بإزالتها. وقيل: عرّفا الناس أن بيتي طهر لهم متى حجوه للطائفين إلى آخره. العطف يقتضي مغايرة، فالطائف من يقصد البيت حاجًا ومعتمرًا فيطوف به، والعاكف من يقيم هناك. ويجاور أو يعتكف، والركع السجود جمعًا راكع وساجد أي من يصلي هناك، وعن عطاء، إذا كان طائفًا فهو من الطائفين، وإذ كان جالسًا فهو من العاكفين، وإذا كان مصليًا فهو من الركع السجود. ويجوز أن يريد بالعاكفين الواقفين يعني القائمين كما قال: {للطائفين والقائمين والركع السجود} [الحج: 26] والمعنى للطائفين والمصلين لأن القيام والركوع والسجود هيئات للمصلي، ولعل الوجه الأول أولى ليكون الركع والسجود كلاهما فقط بمعنى المصلين ولهذا لم يفصل بينهما بالواو. ثم إذا فسرنا الطائعين بالغرباء دلت الآية على أن الطواف للغرباء أفضل من الصلاة، لأنه تعالى مدحهم بذلك. وقد روي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء أن الطواف لأهل الأمصار أفضل، والصلاة لأهل مكة أفضل.
وفي إطلاق الآية دليل على جواز الصلاة في البيت فرضًا كانت أو نفلًا خلافًا لأحمد ومالك في الفريضة قالا {فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام} [البقرة: 144] ومن كان داخل المسجد لم يكن متوجهًا إلى المسجد بل إلى جزء من أجزائه، وأجيب بأن التوجه إلى جزئه كافٍ لأن المتوجه الواحد لا يكون إلا كذلك وإن كان خارج المسجد، وبأن الفرق بين الفرض والنفل لاغٍ.
قوله تعالى: {وإذ قال إبراهيم} قيل: في الآية تقديم وتأخير لأن قوله: {رب اجعل هذا بلدًا آمنًا} لا يمكن لا بعد دخول البلد في الوجود. فقوله: {وإذ يرفع} [البقرة: 127] وإن كان متأخرًا في التلاوة فهو متقدم من حيث المعنى قلت: في ترتيب القصة فوائد منها: أنه أجمل القصة في قوله: {وإذ ابتلى} إلى {فأتمهن} ثم فسر، وفي التفسير قدم الأهم فالأهم، ولا ريب أن ذكر جعل إبراهيم إمامًا أولى بالتقديم لعموم نفعه للخلائق ولتقدمه في الوجود أيضًا، ثم ذكر جعل البيت مثابة للناس وأمنًا لأنه المقصود من عمارة البيت ثم حكاية عمارة البيت. وقد حصل في ضمن رعاية الأهم فوائد أخر منها: أنه كما كان مبنى القصة على الإجمال والتفسير وقع كل من أجزائها أيضًا كذلك فقوله: {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنًا} مجمل، ثم فسر ذلك بأن جعله ذا أمن كان بسبب دعاء إبراهيم. وذكر البيت أولًا وقع مجملًا ثم فسر بأنه كيف بني ومنها أنه وقع ختم الكلام بأدعية إبراهيم عليه السلام ووقع ختم الأدعية بذكر خاتم النبيين، وهذا ترتيب لا يتصور أحسن منه ولعل ما فاتنا من أسرار هذا الترتيب أكثر مما أحصينا.
{هذا بلدًا آمنًا} ذا أمن مثل عيشة راضية أو آمنًا من فيه كقولك ليل نائم وإنما قيل هاهنا بلدًا آمنًا على التنكير وفي سورة إبراهيم {هذا البلد آمنًا} إما لأن هذا الدعاء صدر منه قبل جعل المكان بلدًا فكأنه قال: واجعل هذا الوادي بلدًا آمنًا، وذاك الدعاء صدر وقد جعل بلدًا فكأنه قال: اجعل هذا المكان الذي صيرته بلدًا بلدًا ذا أمن، وإما لأن الدعوتين واحدة والمراد اجعل هذا البلد بلدًا آمنًا فيفيد مبالغة زائدة كقولك هذا اليوم يوم جار معناه اجعله من البلدان الكاملة من الأمن بخلاف قوله: {اجعل هذا البلد آمنًا} [إبراهيم: 35] ففيه طلب الأمن نفسه قيل: سأل الأمن من القحط لأنه أسكن أهله بواد غير ذي ضرع ولا زرع وقيل: من الخسف والمسخ، وقيل: من القتل كيلا يكون سؤال الرزق بعده تكرارًا، وأجيب بأن التوسعة في الرزق مغايرة لطلب إزالة القحط. ثم إنه تعالى استجاب دعاءه فجعله آمنًا من الآفات فلم يصل إليه جبار إلا قصمه الله كما فعل بأصحاب الفيل.
قيل: أليس أن الحجاج حارب ابن الزبير وخرب الكعبة وقصد أهلها بكل سوء؟ وأجيب بأن مقصوده لم يكن تخريب الكعبة نفسها وإنما كان غرضه شيئًا آخر.
{من الثمرات} {من} للابتداء لا للتبعيض بدليل قوله: {يجبى إليه ثمرات كل شيء} [القصص: 57] وإنما سأل إبراهيم عليه السلام الأمن وأن يجبى إليه الثمرات وإن كان يتعلق بالدنيا لأن البلد إذا كان آمنًا ذا خصب تفرغ أهله لطاعة الله تعالى ويكون سببًا لاجتماع الناس وإتيانهم إليه من كل أوب زائرين وعاكفين، وطلب الدنيا لأجل الدين من سنن الصالحين «نعم المال الصالح للرجل الصالح» واختلف في أن مكة هل كانت آمنة محرمة قبل دعوة إبراهيم وصار ذلك مؤكدًا بدعائه فقيل: نعم لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض» ولقوله: {عند بيتك المحرم} [إبراهيم: 37] وقيل: إنما صارت حرمًا آمنًا بدعوته، وقبلها كانت كسائر البلاد بدليل قوله: «إني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة» وقيل بالجمع بينهما، وذلك أنه كان ممنوعًا قبله بمنع الله تعالى من الاصطلام وبما أوقع في النفوس من التعظيم ثم صار آمنًا على ألسنة الرسل. و{من آمن منهم} بدل من {أهله} يعني وارزق المؤمنين من أهله خاصة كأنه قاس الرزق على الإمامة حيث ميز هناك بين المؤمن والكافر فقيل: {لا ينال عهدي الظالمين} فعرف الفرق بينهما فقيل {ومن كفر} عطفًا على {من آمن} كما مر في {ومن ذريتي} أو هو مبتدأ مضمن معنى الشرط جوابه {فأمتعه} وذلك أن الاستخلاف استرعاء يختص بمن ينصح للمرعي فيؤدي عن الله أمره ونهيه ولا يأخذه في الدين لومة لائم ولا سطوة جبار وظالم وأبعد الناس عن النصيحة الظالم ولهذا قيل: من استسرعى الذئب فقد ظلم. وأما الرزق فلا يقبح إيصاله إلى المؤمن والكافر والصالح والفاجر لعموم الرحمة، ولأنه قد يكون استدراجًا للمرزوق وإلزامًا للحجة على أنه متاع قليل وأمد يسير فيما بين الأزل والأبد و{قليلًا} أي إمتاعًا أو تمتيعًا قليلًا أو زمانًا قليلًا فنعمة المؤمنين في العاجل موصولة بنعيمهم في الآجل، ونعمة الكافرين مقطوعة عنهم بعد الموت، والزائل لا يجدي بطائل {أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون} [الشعراء: 205- 207] ومعنى الاضطرار أن يفعل به ما يلجئه إلى النار كقوله: {يوم يدعُّون إلى نار جهنم دعا} [الطور: 13] {وسيق الذين كفروا إلى جهنم} [الزمر: 71] أو أن يصير الفاعل بالتخويف والتهديد إلى أن يفعل ذلك الفعل اختيارًا كالاضطرار إلى أكل الميتة مثلًا {وبئس المصير} ذلك الذي اضطر إليه أو ذلك الاضطرار، فحذف المخصوص للعلم به. والمصير إما مصدر بمعنى الصيرورة يقال: صرت إلى فلان مصيرًا وإما موضع وكلاهما شاذ والقياس مصار مثل معاش وكلاهما مستعمل والله أعلم. اهـ.